السرور في القرآن الكريم .. بقلم الباحث/ محمد أحمد عبد الله

0
0

كتب

المحرر والناشر الإلكتروني لجريدة صوت الشعب، الصادرة من وعن محافظة دمياط

“السرور في القرآن الكريم”

 

السرور انشرح الصدر ، ومتعة النفس ، ولذة القلب ، وارتياح الضمير ، وبهجة الباطن ، إنه شعور طيب محبب يسري في الكيان ،ويسري في الوجدان ،ويملأ الخاطر ،ويغمر الإحساس ،ويثلج الشعور ، إنه معنى خفي يستقر في الأعماق.

ومن ثم يلتقي في مادة اللغوية ( س ر ر)مع السر ، ويجمعها “إخفاء الشيء وما كان من خالصه ومستقره… فالسر خالص الشيء ، ومنه السرور ؛لأنه أمر خال من الحزن” وهو مستقر في طوايا النفس ،وأغوار الحس ؛ “فالسرور ما ينكتم من الفرح “.

يرطب النفس

يقول الفيروزآبادي:”والسرور مأخوذ من السر ؛ لأن المراد: ما ينكتم من الفرح والسرور يرطب النفس ، وهو محبب إليها ، وهو ريحانتها ،كما أن أطراف الريحان تسمى “سروا لأنها أرطب شيء فيه وأغضه” ويوحي بالندارة والحسن والرقة ؛ف ” السرور ما استمر من البردية فرطبت وحسنت ونعمت”

وهكذا….تلتقي هذه المعاني الطيبة المحببة الخالصة الكامنة المستقرة الرطبة الرقيقة مع السرور ظلالا دلالاية يشف عنها ويوحي بها.

السرور في القرآن

وقد جاء السرور في القرآن الكريم في أربعة مواضع في سياقات مختلفة ،وصيغ متبانية على النحو التالي:

(١) قال الله تعالى:” قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها قال إنّه يقول إنها بقرةٌ صفراء فاقعٌ لونها تسرُّ النّاظرين (البقرة:٦٩)

وقد جاءت هذه الآية الكريمة في سياق حوار موسى عليه السلام مع قومه وهو يبلغهم أمر الله لهم بذبح بقرة ليؤكد الله لهم قدرته على إحياء الموتى ،ويريهم آياته البينات ، وجاء الأمر لهم سهلًا ميسورًا بذبح (بقرة) بهذا العموم، ولكنهم تراخوا في استجابة الأمر وعددوا أسئلة تستجلي شروطًا لم تطلب ، وأوصافا لم تفرض ،فأجابهم عن سن البقرة بين المسنة والصغيرة ،فراحوا يسألون عن لونها فأجابهم بملامح اللون من الصفرة ،وخلوصها وصفائها ، ثم ما ينجم عن هذا من حسن الهيىة ،ورونق الطلعة ما يبعث السرور في أعماق الناظرين إليها ، ثم سألوا بعد ذلك عن طبيعة عملها.

إنهم بهذا التباطؤ في تنفيذ الأمر ، ودورانهم حول هذه الأسئلة قيدوا المطلق ، وصعبوا السهل ، وعسروا اليسير ، وشددوا الهين ، مقدمين أمام هذه الأسئلة استفهاما:

” وإذ قال موسى لقومه إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرةً قالوا أتتّخذون هزوًا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. قال ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرةٌ لا فارض ولا بكرّ عوانٌ بين ذلك ففعلوا ما تؤمرون “( البقرة:٦٧, ٦٨)

يوطئ للتابطؤ والتقاعس:ذلك لأن هذا الاستفهام يوحي بعدم تقديرهم رفعة نبي الله عن جهلة الاستهزاء واعتصامه بأمانة البلاغ ، ومن كان كذلك من اهتزاز اليقين لا يتلقف الأمر من أوله وهله بالتنفيذ ،ولا يتلقاه بالطاعة ، بل بتوان وتراخي ، فضيقوا الواسع ،وضيقوا المتاح ،وألجئوا إلى عنت التقصي ومشقة التحقق ، قال ابن عباس رضي الله عنه:” لو ذبحوا بقرة ما لأجزاتهم ،لكنهم شددوا في السؤال ، فشدد الله عليهم”

ويأتي السؤال عن اللون في وسط الأسئلة فيجابون بتحديده “صفراء” ودرجته “فاقع” ثم بما تحدثه هيئتها بهذا البريق وغيره من رواء الشكل وبهاء السمت من لذة تغمر القلب ، وتملأ النفس ، وتنعش الوجدان ‘تسر الناظرين ” تبعث فيهم البهجة والبشر والارتياح قال وهب بن منبه:” كانت كأي شعاع الشمس يخرج من جلدها “

(٢) قال الله تعالى:

” إنا نخاف من ربّنا يومًا عبوسًا قمطريرًا. فوقهم الله شرّ ذلك اليوم ولقّهم نضرةً وسرورًا “( الإنسان:١٠ , ١١)

جاء ذلك في سياق الحديث عن الأبرار وما أعد الله لهم من طيب الشرب وأعذبه وما تحلوا به من الوفاء بالطاعات ، والخوف من أهوال يوم القيامة ، وهم بوفائهم يحصدون الخير ،وبخوفهم يتقون الشر ؛ “فالخوف لاجتناب الشر ،والوفاء لاجتلاب الخير ” ويطعمون الطعام المحبب لهم يجودون به للمحتاجين إليه على اختلاف أنواعهم وأحوالهم مبتغين بذلك وجه الله ، وتؤكد الآيات على خوفهم ذلك اليوم المكفهر الشديد الطويل ، فأمنهم الله من شره ، وحفظهم من أهواله ، وكسا وجوههم حسنا ، وغمر نفوسهم رضا ، وملأ قلوبهم بهجة فاضت على وجوههم إشراقا وحسنا أثرا جليّا من آثار ما يغمر قلوبهم رضا خفيّا : ” فوقهم الله شرّ ذلك اليوم ولقهم نضرةً وسرورًا” “والنضرة جمال البشرة وذلك لا يكون إلا مع فرح النفس وقرة العين” فالنضرة والسرور مقترنان.

(٣) قال الله تعالى

” فأمّا من أوتي كتابه بيمينه. فسوف يحاسب حسابًا يسيراً ، وينقلب إليه أهله مسرورًا “( الانشقاق ٧: ٩)

يعمل الإنسان ويضرب في الأرض ويكسب ما شاء الله له ، ثم لا بد له من الرجعة إليه سبحانه وتعالى ،والمثول بين يديه ، وملاقاته بما عمل وكسب وما قدم وأخر ، وهنا يكون التفاوت في الدرجات نتجية التفاوت في الأعمال، في تصنيف فاصل ، وتنوع واضح، وتقسيم بيّن ، وشتان بين فريق وفريق.

” وكذالك وأحيانا إليك قرءانًا عربيًّا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السّعير”. (الشورى: ٧)

فالمؤمن الذي عمل الصالحات ، وتحلى بالطاعات ، واتبع الحق ، ولزم الهدى ، يُعطى كتابه بيمينه ، ويلقى حسابه سهلًا ميسورًا، وتكمل سعادته بلقائه بأهله المؤمنين ، ومن أعده الله له من الحور العين ، وصحبة الأخيار المخلصين ، ورفقة المرسلين ، والدخول في الصالحين ، لتقر عينه بعظم الجزاء ، وتكمل غبطته بمؤانسة الأحبة ، ومرافقة الصفوة ، ومصاحبة البررة . 

هذه هي الصورة المشرقة للصنف الفائز ، والفريق المكرم.

(٤) قال الله تعالى:”

وأمّا من أوتي كتابه وراء ظهره. فسوف يدعوا ثبورًا. ويصلى سعيرًا. إنّه كان في أهله مسرورًا. (الانشقاق: ١٠:١٣)

ويصور القرآن الكريم الصورة المعتمة للصنف الخاسر ، والفريق المهان ممن أساء وظلم ، وقصّر وفرّط، وضلّ واعتدى ، فيأخذ كتابه في هذه الصورة المهينة بشماله من الخلف ، وقد” غُلَّت يمناه إلى عنقه ، وجعلت شماله وراء ظهره ” قال ابن عباس رضي الله عنه:” يمد يده اليمنى ليأخذ كتابه فيجذبه ملك فيلخع يمينه ، فيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره “.

وحين يجد نفسه في هذه الحالة ، ينادي بالهلاك والويل والتحسر ، ويدخل النار ، يقاسي حرها ، ويلقى وهجها، وهنا يخيم الحزن عليه ، وتغشاه الكآبة ، ويحوطه الغم، لقد كان في الدنيا سعيدا بلهوه ، بطرًا بغيه ، مطمئنًا بزخؤف الدنيا ، واهمًا بقاءه بها ، ودوامه لها ، وأنه لن يرجع إلى ربه عما اكتسبه واقترفه:

” إنه ظنّ أن لن يحور “( الانشقاق: ١٤)

إن هذا السرور الواهم الواهي الذي شغله عن الحق وأعماه عن الهدى ، وغمسه في اللهو والبطر ، حرمه السرور الحقيقي الدائم في الآخرة الذي ينعم به من شغلهم أمر الآخرة ، وأهمهم شأنها ، فعاشوا في حذر ووجل ، وإشفاق واحتراس ، وخشية وبكاء ، قال ابن زيد:” وصف الله أهل الجنة بالمخافةو الحزن والبكاء والشفقة في الدنيا ، فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة ، وقرأ قول الله تعالى:” فمنَّ الله علينا ووقانا عذاب السَّموم “. الطور: ٢٧

قال: “ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا والضحك فيها والتفكه فقال:

” إنّه كان في أهله مسرورًا. إنّه ظنّ أن لن يحور. (الانشقاق: ١٣ :١٤)

أي لن يرجع حيًا مبعوثا فيحاسب “

إن المؤمن يأخذ من الدنيا بقدر ، ويعيش دومًا على حذر ، فيما كبر وصغر ، حتى في بسمته ولفتته ، فالآخرة دائمًا نصب عينه ، ينتظره سرورٌ بلا حدود ، وسعادة بلا قيود.

قال سلمان الفارسي رضي الله عنه:” ثلاثة أعجبتني حتى أضحكتني ؛ مؤمن الدنيا والموت يطلبه ، وغافل ليس بمغفول عنه ، وضاحك لا يدري أساخط عليه ربّ العالمين أم راضٍ ، وثلاثة أحزنتني حتى أبكتني: فراق محمد صلى الله عليه وسلم وحزبه أو قال فراق محمد والأحبة ، وهول المطلع ، والوقوف بين يدي الله عز وجل لا أدري إلى جنة يؤمر بي أو إلى النار.

الخميس الموافق٢٩من فبراير ٢٠٢٤, ١٩ من شعبان ١٤٤٥

ذات صلة: كلمات ربي وآياته في القرآن الكريم.. بقلم الباحث /محمد أحمد عبد الله

اترك تعليق

من فضلك، أدخل تعليقك!
من فضلك، أدخل اسمك