إصلاح الألسنة

0
384

هل يستقيم الظل والعود أعوج

إن إصلاح الألسنة منوط بإصلاح القلوب، فهيهات أن تصلح الألسنة والقلوب فاسدة، وهل يستقيم الظل والعود أعوج؟ لأن اللسان ترجمان الجنان فلا ينطق اللسان إلا بما أملاه الجنان.

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما … جعل اللسان على الفؤاد دليلا.

وما أروع قول ابن المعتز: (الحكمة شجرة تنبت في القلب وتثمر في اللسان) وليس صلاح الألسنة في قدرتها على الكلام الكثير والتعبير الجميل فذلك قد يتاح لذوي القلوب الفاسد والنيات السيئة وللذين يقولون ما لا يفعلون.

وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليبغض هذه المظاهر الفارغة المتكلفة وينتهر أصحابها بمثل قوله: (إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيقهون) .

ولأن كثرة الكلام والمبالغة في توشيته وزخرفته قد تخرجانه عن الصدق والصواب، وتجران صاحبهما إلى ما يذم ويعاب، من النبز والهمز والاغتياب، ومن أجل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصفوة المختارة من هذه الأمة يتحامون الكلام جهدهم لأنهم- لتربيتهم الإسلامية السامية.

يأنفون من أن يزيد قولهم على فعلهم، فهم لا يتكلمون إلا إذا رأوا في الكلام عملا صالحا يؤتي ثمرته عاجلا أو آجلا، لا يتكلمون إلا دعاة إلى الله آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، لا يتكلمون إلا إذا رأوا حرمة الله تنتهك أو حدا من حدود الله يستباح، أو منكرا من المنكرات يرتكب، فليس صلاح اللسان كما نفهمه اليوم، زيادة في النطق وزخرفة في اللفظ، وإنما صلاح اللسان في النطق بما يليق وفي الصمت عما لا يليق، وهي الخطة القويمة.

التي رسمها لنا عليه الصلاة والسلام، إذ قال: (رحم الله امرأ قال خيرا فغنم أو سكت فسلم) ولكن هذه الخطة القويمه الحكيمة التي تعصم من الزلل في النطق وتعصم من الاثم في الصمت، نسخناها بعملنا فلا نتكلم إلا اكتسابا للإثم، ولا نسكت إلا إمساكا عن خير، ولا تتكلم إلا بالزور والكذب والنفاق والملق، ولا نتكلم إلا اغتيابا ونميمة أو تعريضا بشخص أو تحريضا على فتنة، ولا نسكت إذا سكتنا- إلا عن خير ندعو إليه أو شر ننهى عنه أو خطر نحذر منه.

وكثير جدا من الشرور لم يساعد على انتشارها إلا سكوت من قبلنا عنها فلما قويت واشتدت ورسخ أصلها في الأرض وامتدت فروعها في السماء صعب اقتلاعها واستئصالها، ولولا السكوت لكانت يوم ولادتها تموت، فيجب أن نعرف للسكوت أضراره كما للكلام أضراره، إن هذا اللسان كالفرس الجموح فإن عرفت كيف تروضه وتضبطه أوصلك إلى ما تريد وقضيت به كل ما تروم قضاءه وإن أهملت رياضته ولم تحسن سياسته رماك على رأسك في هاوية، وأفرس الفرسان من تغلب على جموح اللسان، ومن هنا كانت للسان مسؤوليته العظمى بحيث يحصى على الإنسان كل ما يفوه به اللسان قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وقال عليه الصلاة والسلام من حديث: (وهل يكب الناس على وجوههم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم؟) .

ولذا كان الصديق رضي الله عنه كثيرا ما يمسك بطرف لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد) وإذا كانت هذه شكوى الصديق من لسانه فماذا يكون قولنا نحن وألسنتنا تظل تحصد ما نزع وتهدم ما نبني؟ إن الفرق الواضح بيننا وبين تلك الصفوة الكريمة من عباد الله هو هذا الشعور الدائم بالتقصير وهذه اليقظة الواعية للمسؤولية التي لا تتركهم يطمئنون إلى قول أو عمل دون أن يزنوه بميزان الشرع. أما نحن فقد قضي على هذا الشعور فينا وهذه اليقظة منا ما تراكم على قلوبنا من آثام ومخالفات فلم نتركها تشعر أو تحس أو تتيقظ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فلنحترس من ألسنتنا دائما فرب كلمة أوقدت فتنة وأراقت دماء ولنعرض عن كلام السفهاء ولا نجيبهم على سفههم وإلا كنا سفهاء مثلهم:
إذاجاريت في خلق سفيها … فأنت ومن تجاريه سواء
والمثل يقول: (من ذا يعض الكلب إن عض) وإنما الناس أوعية فلينفق كل مما عنده، ومن كان وعاء للخير فلا يصدر منه إلا خير، والمؤمن ينبغي أن لا يكون إلاكذلك.

وليذكر المؤمن أن كل إنسان رهين بعمله وليكن قدوته أبا بكر الصديق رضي الله عنه وقد قال له بعض السفهاء: والله لأسبنك سبا يدخل معك قبرك فقال له أبو بكر: (يدخل معك قبرك أنت).

صلاح الألسنة من صلاح القلوب
ولكن لنذكر قبل كل شيء وبعد كل شيء أن صلاح الألسنة من صلاح القلوب فلنصلح قلوبنا لنستطيع إصلاح ألسنتنا فإذا استطعنا إصلاح القلب واللسان استطعنا أن نصل إلى إصلاح كل فساد، والإنسان ليس بإنسانا إلا بالقلب واللسان وهو معنى قولهم: المرء بأصغريه قلبه ولسانه، ومعنى قول الشاعر:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده … فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
و {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}

نشرت في جريدة (البصائر)

اترك تعليق

من فضلك، أدخل تعليقك!
من فضلك، أدخل اسمك