“اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى”
آخِرُ الْهَمَسَاتِ النَّبَوِيَّةِ ،هِيَ آخِرُ الْكَلِمَاتِ وَتَنْقَطِعُ السَّمَاءُ عَنِ الأَرْضِ، وَتَمْضِي الْخَلَائِقُ وَحْدَهَا تُوَاجِهُ الأَحْدَاثَ بِلَا نَبِيٍّ أَوْ رَسُولٍ.
فَهَاهِيَ الدُّنْيَا تَعِيشُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ لِلْمَرَّةِ الأُولَى مُنْذُ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ، فَقَدْ كَانَ لِلنَّاسِ أَنْبِيَاءُ وَرُسُلٌ تَسُوسُهُمْ وَتَؤُمُّهُمْ، وَالْيَوْمَ جَاءَتِ الرِّسَالَةُ الأَخِيرَةُ وَالنَّبِيُّ الْخَاتَمُ فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ، فَمَاذَا يَفْعَلُ النَّاسُ؟!.
وَتُدْرِكُ أُمُّ أَيْمَنَ حَاضِنَةُ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ الانْقِطَاعُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَأَنَّهُ قَدْ بَدَأَ الْفِصَامُ النَّكِدُ مَا لَمْ يَكُنِالتَّمَسُّكُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عِصْمَةً وَوِقَايَةً وَسَبِيلَ الأُمَّةِ فِي الطَّرِيقِ النَّاهِجِ الطَّوِيلِ.
رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: (قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِعُمَرَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا .. بَكَتْ، فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي أَلَّا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا).
وَلَنَا مَعَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا لِقَاءَاتٌ؛ إِذْ هِيَ أَكْثَرُ أَهْلِ بَيْتِهِ رِوَايَةً لِخَبَرِ وَفَاتِهِ، وَهِيَ الشَّاهِدَةُ عَلَى آخِرِ الْمَوَاقِفِ وَأَحَرِّهَا، فتقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَهُوَ صَحِيحٌ يَقُولُ:”إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ منَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُحَيَّا أوْ يُخَيَّرَ”.
فَلَمَّا اشْتَكَى – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَحَضَرَهُ الْقَبْضُ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا .. غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ .. شَخَصَ بَصَرُهُ نَحْوَ سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ: “اللَّهُمَّ؛ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى”.
قَالَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا: (إذًا لَا يَخْتَارُنَا) ، إِذًا لَا يُجَاوِرُنَا، قَالَتْ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ حَدِيثُهُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ .
(اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى)
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَالَتْ: فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بها رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَوْلَهُ: “اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى”.
(اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى) آخِرُ الْهَمَسَاتِ، بَلْ آخِرُ الْكَلِمَاتِ، إِنَّهَا تَرْسُمُ الطَّرِيقَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ مَاضٍ فِي طَرِيقِ اللهِ تَعَالَى، إِنَّهَا الْكَلِمَةُ الْفَصْلُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَعَ الرَّفيقِ الأَعْلَى، وَإِمَّا أَنْ يَخْتَارَ أَدْنَى الرِّفَاقِ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالشِّقَاقِ، وَهَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا؟! إِنَّهُ لَحَدْلٌ غَيْرُ عَدْلٍ.
(اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى) لِيُعَلِّمَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أُمَّتَهُ وَهُوَ فِي أَشَدِّ اللَّحَظَاتِ وَأَثْقَلِهَا: أَنَّ الْحَيَاةَ وَإِنْ طَالَتْ وَتَمَتَّعَ بِهَا الْمَرْءُ إِلَى نِهَايَةٍ؛ فَلْتَكُنْ مَعَ الرَّفِيقِ الأَعْلَى.
(اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى) لِكَيْ يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ؛ عَلَى الدَّرْبِ السَّهْلِ الرَّفيقِ، حَتَّى تَكُونَ بِعَونِ اللهِ سُبْحَانَهُ {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} .
وَمِنْ آخِرِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي هَمَسَ بِهَا النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي احْتِضَارِهِ: مَا رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: كَانَ آخِرُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَهُوَ يُغَرْغِرُبِهَا فِي صَدْرِهِ ، وَمَا كَانَ يَفِيصُ بِهَا لِسَانُهُ: “الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، اتَّقُوا اللهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ” .