‌‌العقل والراحة

0
0

‌‌العقل والراحة

من قدر أنه يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون

العقل والراحة وهو اطراح المبالاة بكلام الناس واستعمال الحق بكلام الخالق عز وجل بل هذا باب العقل والراحة كلها من قدر أنه يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون .

من حقق النظر وراض نفسه على السكون إلى الحقائق وإن آلمتها في أول صدمة كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه لأن مدحهم إياه إن كان بحق وبلغه مدحهم له أسرى ذلك فيه العجب فأفسد بذلك فضائله وإن كان بباطل فبلغه فسره فقد صار مسرورا بالكذب وهذا نقص شديد وأما ذم الناس إياه فإن كان بحق فبلغه فربما كان ذلك سببا إلى تجنبه ما يعاب عليه وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا ناقص.

بالحلم والصبر

وإن كان بباطل وبلغه فصبر اكتسب فضلا زائدا بالحلم والصبر وكان مع ذلك غانما لأنه يأخذ حسنات من ذمه بالباطل فيحظى بها في دار الجزاء أحوج ما يكون إلى النجاة بأعمال لم يتعب فيها ولا تكلفها وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا مجنون وأما إن لم يبلغه مدح الناس إياه فكلامهم وسكوتهم سواء وليس كذلك ذمهم إياه لأنه غانم للأجر على كل حال بلغه ذمهم أو لم يبلغه ولولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثناء الحسن (ذلك عاجل بشرى المؤمن) لوجب أن يرغب العاقل في الذم بالباطل أكثر من رغبته في المدح بالحق.

بالحق لا بالباطل

ولكن إذ جاء هذا القول فإنما تكون البشرى بالحق لا بالباطل فإنما تجب البشرى بما في الممدوح لا بنفس المدح ليس بين الفضائل والرذائل ولا بين الطاعات والمعاصي إلا نفار النفس وأنسها فقط فالسعيد من أنست نفسه بالفضائل والطاعات ونفرت من الرذائل والمعاصي والشقي من أنست نفسه بالرذائل والمعاصي ونفرت من الفضائل والطاعات وليس ها هنا إلا صنع الله تعالى وحفظه طالب الآخرة ليفوز في الآخرة متشبه بالملائكة وطالب الشر متشبه بالشياطين وطالب الصوت والغلبة متشبه بالسباع وطالب اللذات متشبه بالبهائم وطالب المال لعين المال لا لينفقه في الواجبات والنوافل المحمودة أسقط وأرذل من أن يكون له في شيء من الحيوان شبه ولكنه يشبه الغدران التي في الكهوف في المواضع الوعرة لا ينتفع بها شيء من الحيوان .

السباع والبهائم

فالعاقل لا يغتبط بصفة يفوقه فيها سبع أو بهيمة أو جماد وإنما يغتبط بتقدمه في الفضيلة التي أبانه الله تعالى بها عن السباع والبهائم والجمادات وهي التمييز الذي يشارك فيه الملائكة فمن سر بشجاعته التي يضعها في غير موضعها لله عز وجل فليعلم أن النمر أجرأ منه وأن الأسد والذئب والفيل أشجع منه ومن سر بقوة جسمه فليعلم أن البغل والثور والفيل أقوى منه جسما ومن سر بحمله الأثقال فليعلم أن الحمار أحمل منه ومن سر بسرعة عدوه فليعلم أن الكلب والأرنب أسرع عدوا منه ومن سر بحسن صوته فليعلم أن كثيرا من الطير أحسن صوتا منه وأن أصوات المزامير ألذ وأطرب من صوته .

الطبع الغضبى

فأي فخر وأي سرور في ما تكون فيه هذه البهائم متقدمة عليه لكن من قوي تمييزه واتسع علمه وحسن عمله فليغتبط بذلك فإنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكة وخيار الناس قول الله تعالى {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} جامع لكل فضيلة لأن نهي النفس عن الهوى هو ردعها عن الطبع الغضبى وعن الطبع الشهواني لأن كليهما واقع تحت موجب الهوى فلم يبق إلا استعمال النفس للنطق الموضوع فيها الذي به بانت عن البهائم والحشرات والسباع .

 

اترك تعليق

من فضلك، أدخل تعليقك!
من فضلك، أدخل اسمك