عبدِ الله ابنِ الزبير رضي الله عنهما والحجاجِ بنِ يوسفَ الثقفي.

إن نسيَ التاريخ لأسماءَ شيئًا فإنه لم ينسَ لها ذلك الموقفَ العظيم مع ابنها عبدِ الله ابنِ الزبير رضي الله عنهما والحجاجِ بنِ يوسفَ الثقفي حين قالت “أما آن للراكب أن ينزل”.

أسماءُ بنتُ أبي بكر رضي الله عنها 

إنها أمُ عبد الله القرشيةُ التيميةُ أسماءُ بنتُ أبي بكر رضي الله عنها وأرضاها وُلِدَت أسماءُ في بيت علمٍ وكرمٍ وحسبٍ ونسبٍ، أمُها قتيلةُ بنتُ عبدِ العزى، تزوجها أبو بكرٍ في الجاهليةِ فأنجبتْ له أسماءَ وعبدَ الله ثم طلقها قبل الإسلام، وبقيت في جاهليتها مدةً ثم أسلمتْ بعدَ الفتح. وشهدت أسماءُ فجرَ الدعوةِ وبدايةَ الانطلاقة، وعاشت مع أبيها أذى المشركين، وحَملتْ لواءَ الدعوة بيدها وقلبها ومشاعرها.

لما مات يزيدُ بنُ معاوية استفحلَ الأمرُ لعبدِ الله بنِ الزبيرِ وبويعَ له بالخلافة في جميع البلاد الإسلامية، ولكن مروانَ بنَ الحكم عارضَه، وأخذَ الشامَ ومصرَ من نوَّاب ابنِ الزبير، وماتَ وتولى بعده عبدُ الملكِ بنُ مروان، وأرسلَ إلى العراقِ وقتلَ مصعبَ ابنَ الزبير وأخذَها، ثم بعث إلى الحجاجِ فحاصر ابنَ الزبير في مكةَ قريبًا من سبعةِ أشهر حتى ظفرَ به في يومِ الثلاثاء السابع عشر من جمادي الأولى، سنة 73هـ.

قال عروةُ بنُ الزبير رضي الله عنه : “دخلت أنا وأخي قبل أن يُقتَل، على أُمنا بعشر ليالٍ وهي وجعةٌ فقال عبدُ الله: كيف تجدينكِ؟ قالت: وجعةٌ. قال: إن في الموت لعافية. قالت: لعلك تشتهي موتي، فلا تفعل، وضحكت، وقالت: والله ما أشتهي أن أموت حتى تأتي على أحد طرفيك، إما أن تُقتلَ فأحتسبُك، وإما أن تظفر فتقر عيني، إياك أن تعرض على خطة فلا توافق فتقبلها كراهية الموت. قال: وإنما عني أخي أن يُقتَل فيحزُنُها ذلك.

وذكر أنها قالت لابنها: يا بني عِش كريمًا، ومُت كريمًا، لا يأخذكَ القوم أسيرًا” (سير أعلام النبلاء: [2/293-9]). ولما أراد أن يودعها نادته إليها وقبَّلتُه وضمَّته فأحست بدرعٍ على صدره فقالت: ما هذا؟ ليس هذا لمن يريد الشهادة؟ قال: والله ما لي به من حاجة إلا مخافةً عليكِ، قالت: انزعه، قال: يا أُمّه إني أخاف أن يُمثِّلوا بي قالت: يا بني إن الشاةَ لا يضرها سلخُها بعد ذبحها”.

ثم أسلمتْ نفسَها لله، ورفعت يديها إلى الحي القيوم

ودّعت أسماء ابنَها، ثم أسلمتْ نفسَها لله، ورفعت يديها إلى الحي القيوم، وهي تقول: “اللهم ارحم ذلك القيام وذلك النحيب والظمأ في الهواجر وبِرُّه بأبيه وبي، اللهم إني قد سلَّمته لأمرك فيه، ورضيتُ بما قضيتَ فقابلني بعبد الله بثواب الصابرين الشاكرين”. وخرج عبدُ الله بنُ الزبير إلى المسجد الحرام بمكة، وبات يصلي طوالَ ليلته ثم جلسَ فاحتبى بحميلة سيفه فأغفى ثم انتبه مع الفجر، ثم أذن وتوضأ فصلى ركعتي الفجر، ثم أُقِيمَت الصلاة فصلى الفجر، ثم قرأ سورة (ن) حرفًا حرفًا ثم سلَّمَ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه وحرّص أصحابه على القتال ثم نهضَ وحملَ وحملوا، فجاءته آجرةٌ فأصابته في وجهه فارتعش لها فلما وجد سخونةَ الدم يسيل من وجهه قال: لَسْنَا عَلَى الأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا *** وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا يَقْطُرُ الدَّمُ ثم سقط على الأرض فأسرعوا إليه فقتلوه.

وجاءوا إلى الحجاج فأخبروه فخر ساجدًا وارتجت مكةُ بالبكاء عليه رضي الله عنه ورحمه. وخطبَ الحجاجُ الناسَ فقال: أيها الناس؛ إن عبدَ الله بنَ الزبير كانَ خيارَ هذه الأمة حتى رغب في الخلافة ونازعها أهلَها وألحد في الحرم، فأذاقه الله من عذابه الأليم، وإن آدمَ كان أكرمَ على الله من ابن الزبير، وكان في الجنة وهي أشرفُ من مكة فلما خالف أمر الله وأكل من الشجرة أُخِرجَ منها قوموا إلى صلاتكم.

فقام له عبدُ الله بنُ عمر رضي الله عنه فقال : أما والله لو شئت أن أقول لك كذبت لقلت والله إن ابنَ الزبير لم يُغيِّر كتاب الله بل كان قوامًا صوامًا عاملًا بالحق. ثم بعث الحجاج برأسه إلى عبد الملك بن مروان وصلبه منكسًا في ثنية الحجون، فجاءته أُمُّه حتى وقفت عليه فدعت له طويلًا ثم انصرفت.

 

فجاءه عبدُ الله بنُ عمر رضي الله عنهما فوقف عليه فقال: “السلامُ عليك أبا خبيب، السلامُ عليك أبا خبيب، السلامُ عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنتُ أنهاك عن هذا، أما والله إن كنتَ ما علمتُ صوامًا قوامًا وصولًا للرحم، أما والله لأمةٌ أنتَ شرُها لأمةُ خيرٍ، ثم التفت إلى أصحابه وقال: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟!”. قال ابن عباس رضي الله عنهما: “أما أبوه فحواري النبي صلى الله عليه وسلم يريد الزبير، وأما جده فصاحب الغار يريد أبو بكر، وأما أُمُّه فذات النطاق يريد أسماء، وأما خالته فأم المؤمنين يريد عائشة، وأما عمته فزوج النبي صلى الله عليه وسلم يريد خديجة، وأما عمة النبي صلى الله عليه وسلم فجدته يريد صفية ثم عفيف في الإسلام قارئٌ للقرآن” (رواه البخاري).

عندها أرسل إلى أمه أسماء أن تأتيه فأبت فأعاد إليها الرسول ليقول لها لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك من قرونك فأبت وقالت والله لا آتيه حتي يبعث إلي من يسحبني من قروني . 

أما آن للراكب أن ينزل

فجاءها الحجاج بنفسه حتى وقف عليها فقال : كيف رأيت ؟ نصر الله الحق وأظهره فقالت : ربما أديل الباطل على الحق وأهله . فقال : إن ابنك ألحد في البيت الحرام وقد قال تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) 
وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم

قالت : كذبت ، كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة وسر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحنكه بيده وكبر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحاً 
وقد فرحت أنت وأصحابك بمقتله ، فمن كان فرحه يومئذ بمولده خير منك ومن أصحابك، وكان براً صواماً قواماً بكتاب الله معظما لحرمته يبغض من يعصي الله عز وجل.

ثم فجعته بقولها وإني لأشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (يخرج من ثقيف كذاب ومبير) 
أما الكذاب فرأيناه (وكان هو المختار بن أبي عبيد الثقفي )
وأما المبير (تعني الطاغية المهلك) فلا أخاله إلا أنت . 
فما نبس الحجاج ببنت شفة وقام ولم يرجع. 

لكن ابنها ظل معلقاً وهي تمر عليه جيئة وذهاباً تتساءل في ثباتها أما آن للراكب أن ينزل.

لستُ لك بأُمٍ ولكني أُمُّ المصلوب

لكن الحجاج لم يَعتبِر بهذا النسب الطاهر ولا أرقام وزنًا لهذه القربى السامية والصلة الرفيعة؛ فحاربَ ابن الزبير رضي الله عنهما وأمسك به وقتله ثم صلبه على عقبةٍ بمكة. ومع كل هذا؛ الجبروت والظلم وقتل الحجاج لابن الزبير، لم تخضع أسماء رضي الله عنها لهذا الطاغية ولا ذلَّت نفسها لأحد وظلَّت صامدةً عزيزةً حتى آخر عمرها. يروى أن الحجاج لما قَتل ابنَ الزبير دخل على أسماء وقال لها: يا أُمّه إن أمير المؤمنين وصاني بكِ فهل من حاجة؟ قالت: لستُ لك بأُمٍ ولكني أُمُّ المصلوب على رأس الثنية وما لي من حاجة” (سير أعلام النبلاء: [2/294]).

 

وذكر الإمام مسلم رحمه الله؛ أن الحجاج أرسل إلى أسماء بنت أبي بكر فأبت أن تأتيه فأعاد عليها الرسول: لتأتينّي أو لأبعثنّ إليكِ من يسحبكِ بقرونكِ. قال: فأبت وقالت: والله! لا آتيك حتى تبعث إليّ من يسحبني بقروني. قال: فقال: اروني سبتيّ -السبت: النعل التي لا شعر عليها والمراد النعال السِبتية-. فاخذ نعليه ثم انطلق يتوذّف حتى دخل عليها فقال: كيف رأيتيني صنعت بعدو الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وافسد عليك آخرتك بلغني أنك تقول له: يا بن ذات النطاقين! أنا والله! ذات النطاقين أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبي بكر رضي الله عنه من الدوابّ وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه.

 

أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثنا: «أن في ثقيف كذابًا» “الكذاب: هو المختار ابن أبي عبيد الثقفي كان شديد الكذب «ومبيرًا» أي: مهلكًا. فأما الكذاب فرأيناه وأما المبيرُ فلا إخالك إلا إياه قال: فقام عنها ولم يراجعها” (رواه مسلم). وعن يحيى بن يعلى التميمي عن أبيه قال: “دخلت مكة بعد قتل ابن الزبير بثلاث وهو مصلوب فجاءته أُمُّه عجوزٌ طويلةٌ عمياء فقالت للحجاج: أما آن للراكب أن ينزل؟ فقال: المنافق؟ قالت: والله ما كان منافقًا كان صوَّامًا قوَّامًا برًا قال: انصرفي يا عجوز فقد خَرِفتِ قالت: لا والله ما خرفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «في ثقيف كذابٌ ومُبير» (ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد: [9/260] مختصرًا ونسبه للطبراني).

لقد بلغ من شأنها رضي الله عنها أن تقف في وجه طاغيةٍ كالحجاج بن يوسف الثقفي؛ ذلك الذي استباحَ الحرمَ الأمين وأغرقه في بحرٍ من الدماء الطاهرة الزكيةِ. وعن ابن أبي مليكة قال: “دخلت على أسماءَ بعد ما أُصيب ابن الزبير فقالت: بلغني أن هذا صَلبَ عبدَ الله اللهم لا تمتني حتى أوتى به فأُحنِّطه وأُكفِّنه. فأتيت به بعد فجعلت تُحنّطته بيدها وتُكفّنه بعد ما ذهب بصرها وصلّت عليه وما أتت عليه جمعة إلا ماتت” (سير أعلام النبلاء: [2/295]).

تركت ميراثًا هائلًا من الثبات على المبدأ يتعلَّم منه الناس جيلًا بعد جيل

وهكذا انتهت حياةُ أسماء بنت أبي بكر الصديق، أمُ عبد الله بن الزبير وزوجُ حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات النطاقين وآخرُ المهاجرات وفاةً. انتهت حياتها وانتقلت إلى جوار ربها؛ لتترك للمؤمنات دروسًا خالدةً ومواعظ غالية، لقد رحلت أسماء رضي الله عنها بعد أن تركت ميراثًا هائلًا من الثبات على المبدأ يتعلَّم منه الناس جيلًا بعد جيل. وسيظل اسم أسماءُ مهما تعاقب الزمان؛ يُذكِّرُ بالجهاد والصبر والتقوى، وسيظلُ لها لقب “ذات النطاقين، في سجل التاريخ وأسفار الخالدين.

اترك تعليق

من فضلك، أدخل تعليقك!
من فضلك، أدخل اسمك