قراءة لغوية تربوية في نصائح لقمان القرآني (4)

0
0
 نصائح لقمان القرآنية (13)

قراءة لغوية تربوية في نصائح لقمان القرآني (4)

           

ففي هذه الفترة المهمة من حياة الطفل يذكِّره ربُّه بوالديه، فيجعل بين الأولاد، ووالديهم علاقةً حميمةً، ووشائجَ كريمةً، وعلائقَ ساميةً، ومعاملاتٍ راقيةً، فقال: “ووصينا الإنسان بوالديه” أيْ بكليهما، ليس بواحد دون الآخر.

 

ولكنَّ القرآن هنا أفاضَ في بيان منزلة الأمِّ، وبيَّن جهدها الكبير، وآلامَها المتعددة، طيلة فترة الحمل: ذهابًا، وعودةً، وطلوعًا، ونزولا، وفرحًا، وحزنًا، وأخذًا، وعطاءً، وحملا، وتنزيلا، فقال: (.. حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).

 

وهنا نرى أنه قد أخَّر الفاعل، وحصره؛ اهتمامًا به، وتنبيهًا عليه، وجعله اسما ظاهرًا واضحًا، وقدم المفعول به وجوبًا؛ لكونه ضميرًا متصلا، ولكون الفاعل اسمًا ظاهرًا.

 

والحَمْل له ظلٌّ، حيث التعب، والأسى، والإرهاق، والجهد المتواصل، ثم جاء الحال:(وهنًا على وهن) أيْ ضعفا على ضعف ، فجسمُها يؤخَذ منه في تكوين عظامه، ويؤخذ منها لطعامه، ولشرابه، ويؤخذ من دمها، فتصير ضعيفة، واهنة، ثم يأتي زمن الرضاعة، والخدمة اليومية، بل اللحظية، والآنية المستمرة؛ لتزيد الوهنَ وهنًا، والتعبَ تعبًا.

 

والواو والهاء، والنون (وهنا) حروف ضعيفة في ذاتها، فرسمتْ بضعفها تلك الصورة المتهالكة للأم.

وهي هنا،وهناك،وهنالك، فتتخيَّل أمًّا أضناها التعبُ، وأقعدها الإرهاقُ، فلا فيها حراك، ولا هي عن خدمة وليدها في فكاك، هو ملازمها، لا يعرف شيئا، ولا يستطيع شيئا، لا حول له، ولا قوة، مغمِض العين ، ذو قلب صغير، غض، لو ضغط عليه لمَاتَ، وهي تحرص عليه، وترعاه، وترضعه، وتؤكله، وتضمُّه بكل حنان إليها، وتضفي عليه ألوان التحنان، وأصناف الحب، وتتمنى له الحياة، وتعيش معه: يناغيها، وتناغيه، ويناجيها بلغته، وتناجيه، وهي مع ذلك في قمة التعب:” وهنا على وهن”.

ثم يأتي التعبير الجميل الذي يفيد الاستمرار، والدوام في ثوب الجملة الاسمية: “وفصاله في عامين”، حيث تظل الأم طيلة العامين ترضع، وتؤكل، وتشبع، وتسقي، وترعى، وتحمي، وتحافظ، وتدعو بالحياة، ورغدها؛ لأجل ذلك كله تأكدت الوصاية بالأمِّ.

 

 ثم تختم الآية :”أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير” أسلوب إنشائي: (أمر) غرضه النصح، والإرشاد، فالشكر حق، وهو أصل لله – جل جلاله-، ثم للوالدين، والفعل (شكر) من الأفعال التي تتعدى بنفسها، كما تتعدى بحرف الجر، نقول:” اشكر أباك، واشكر لأبيك”، و”اشكرني، واشكر لي”، قال – تعالى-: ” فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) سورة النحل، وقال – تعالى-:” وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)” سورة الأحقاف، وقال -عز وجل-:” فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)” سورة البقرة، وقال في السورة نفسها:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)” سورة البقرة.

 

فالفعل (شكر) يتعدى بنفسه، ويتعدى كذلك بوساطة حرف الجر؛ لمزيد دلالة، وشامل مفهوم، وواسع معنًى، وعطف الله – جل جلاله – شكر الوالدين على شكره؛ إظهارا لقدر الوالدين، فشكرُهما شكرٌ لله، وتوقيرُهما هو تعظيمٌ لأوامر الله.

وحتى لا يتردد إنسانٌ ما فقد جاء التذييل صادِعًا مخيفا:” إليَّ المصير”، أي المرجع، والمآب، والصير، والرجوع، فأُعطي من شكر حقَّه، وثوابه، وأعذِّب من كفر بحقوقهما، وتنكَّب الطريق، ولم يُعِرْ أوامر الله اهتماما، وراح يعذِّب أبويه في حياتهما، فأوفيه عقابه.

 

ثم يأتي الختام بجملة اسمية، تقرر هذا الحكم، وقد تقدَّم فيها الخبر؛ ليرعوي القارئ عن غيِّه، وليتأكد أنه صائرٌ إلى ربه، لا مفر من ذلك.

 

ونواصل الحديث حول تلك المواعظ في لقاء قادم، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

بقلم / الباحث محمد أحمد

    الأربعاء ١٦ إبريل ٢٠٢٥

جامعة الأزهر -كلية اللغات والترجمة

المزيد :قراءة لغوية تربوية في نصائح لقمان القرآنية (3)

اترك تعليق

من فضلك، أدخل تعليقك!
من فضلك، أدخل اسمك