قراءة لغوية تربوية في نصائح لقمان القرآنية (3)

0
0
 نصائح لقمان القرآني (11)
 نصائح لقمان القرآني (11)

 نصائح لقمان القرآنية

         

فكان لقمانُ حكيمًا كل الحكمة عندما بدأ بقضايا الاعتقاد، وسلامة القلوب، واطمأن على طهارة الفؤاد التي سيُبنَي عليها كلُّ ما بعدها، من ضوابط، وقواعد، وأخلاقيات، ومعاملات، وعبادات، ونحوها.

 

فقد أحْسنَ لقمان غرس القيم، ووضع الأساس، وأجْمَلَ في التربية، وأتمَّ بناءَ ولدِه بناءً عَقَدِيًّا صحيحًا، مبِّينا ذلك في إطار من الجملة الاسمية التي تفيد الثبات، والاستمرار في أن الشرك ظلمٌ عظيمٌ، يستمر مدى الحياة حيث يحرم صاحبه من رحمة الله، ويستنزل عليه غضبه، ونقمته، ولا يوضع له القبول في الأرض.

 

ثم إن التعبير بالصفة المشبهة (عظيم) يبيِّن استمرار خطورته، وشيوع ظلمه في كل زمان، ومكان، وفي كل شأن من شؤون الحياة على اتساعها، وتعدد جوانبها، وتنوعها، فصاحبُ الشرك مغضوبٌ عليه.

 

وفي أثناء هذه الموعظة، وعندما يكون الابنُ حاضر البديهة، منتبها، متيقظا، واعيا، موجودا بكُلِّه، وبكامل مشاعره، وتام أحاسيسه، تجد أن السياق ينقطع عن الموعظة الخاصة بالابن، إلى أمر مهم للغاية، وهو وصاية الله بالوالدين، وضرورة العناية بهما، وبيان مدى التعب، والجهد، والعمل المتواصل، والدأب المستمر، والسهر على رعاية الأبناء، والبنات، وبذْل أقصى ما في الوسع لهما.

 

وهذا الأمر يتطلب أن يُوصَى بهما، حتى يتنبهَ الأولادُ إلى والدَيْهم: أمًّا وأبًا، فقال ـ جلّ جلاله-:(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

وهنا يأتي الفعل مسندا إلى نون العظمة (نا) حيث إجلالُ الله- تعالى- للوالدين، فَوَصَّى بنفسه ـ جلّ، وعلا:(ووصينا) فالفاعل هو الله، وإذا وصَّى اللهُ بشيء وجب حفظه، ولزمتْ صيانته، والقيام بحقه، والسهر على أن يكون مغروسا في سويداء القلب، وحبة الفؤاد، وأن يُعتَنَى به أشدَّ عناية.

 

و(الإنسان) هنا مطلق إنسان، ف(أل) جنسية، أي وصينا كل إنسان، وأي إنسان، وجنس الإنسان لابد أن يكون مقدرا، ومحترما، وموقرا حق والديه، ولم يقل:(ووصينا الإنسان بأبويه) ـ كما قال مثل ذلك في آيات أخر ـ نحو:(.. ولأبويه لكل واحد منهما..)، ونحو:(وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين)؛ وذلك لأن المقام هنا مقام تذكير بأصلِ، وسبب الوجود، وكأن كلَّ واحد منهما قد عَانَى الولادة، وتجرَّع آلامها، وتذوَّق مشاقَّها؛ ليحنِّن قلبَ الأولاد على مَنْ ولدوهم، ورعوهم، واهتموا بهم: رضَّعًا، وأطفالا، حيث كانوا نواعمَ الأنامل، لا يقوون على القيام، ولا أكل الطعام، ولا يعرفون كيف يتصرفون، وعندما كانت أعينُهم لا تزال مُغْمَضَة، لا يستطيعون لها فتحًا، ولا يملكون بها نظرًا.

 

ففي هذه الفترة المهمة من حياة الطفل يذكِّره ربُّه بوالديه، فيجعل بين الأولاد، ووالديهم علاقةً حميمةً، ووشائجَ كريمةً، وعلائقَ ساميةً، ومعاملاتٍ راقيةً، فقال: “ووصينا الإنسان بوالديه” أيْ بكليهما، ليس بواحد دون الآخر.

 

ولكنَّ القرآن هنا أفاضَ في بيان منزلة الأمِّ، وبيَّن جهدها الكبير، وآلامَها المتعددة، طيلة فترة الحمل: ذهابًا، وعودةً، وطلوعًا، ونزولا، وفرحًا، وحزنًا، وأخذًا، وعطاءً، وحملا، وتنزيلا، فقال: (.. حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).

 

وهنا نرى أنه قد أخَّر الفاعل، وحصره؛ اهتمامًا به، وتنبيهًا عليه، وجعله اسما ظاهرًا واضحًا، وقدم المفعول به وجوبًا؛ لكونه ضميرًا متصلا، ولكون الفاعل اسمًا ظاهرًا.

   بقلم / الباحث محمد أحمد

     الثلاثاء ١٥ إبريل ٢٠٢٥

كلية اللغات والترجمة – جامعة الأزهر

المزيد :قراءة لغوية تربوية في نصائح لقمان القرآنية (2)

اترك تعليق

من فضلك، أدخل تعليقك!
من فضلك، أدخل اسمك