قراءة لغوية تربوية في نصائح لقمان القرآنية (2)
وتأتي الجملة الحالية (وهو يعظه) لتكون حانية، أجمل ما يكون الحنوُّ، وتضفي على الموقف التربويِّ كل مشاعر الأبوة الصادقة، ليس برفع الصوت، وتقطيب الجبين، ولَيِّ الحاجب ورفع عقيرة المربِّي، والصراخ في وجه الطفل المُرَبَّى.
وإنما تُبرِز جملة الحال هنا مدى العلاقة الحميمة بين الأب، وابنه، حيث يجد الابنُ في أبيه الصورة المثلى، ويعايش معه ذلك النموذج المثالي في التربية، ويشرب الطفلُ مع لبن أمِّه تلك التربية الراقية، ثم تأتي جملة النداء: (يا بنيَّ) لتسكب رُضاب المحبة على عقل، وقلب، وفؤاد الابن، وهذا النداء:” يا بنيَّ”، فيه تصغير للفظ.
والتصغير هنا للتدليل، والحنو، وبيان الحب الصادق، أيْ يا حبيب قلبي، ولفق فؤادي، وربيع عمري، وإكسير حياتي، وريحانة أنفي، وموضع سرور عيني، وفرحة قلبي.
أنا أخصك يا بنيَّ بتلك النصائح ، وكُلِّي أمل أن أراها ماثلةً على جوارحك، راشحةً على سلوكك، أينما توجَّهت، وحيثما كنتَ لأنك موضع قدوة، ومناط أسوة، ولابد أن يكون لك دور في مستقبل حياتك في تبصير التائهين، والأخذ بيد المتحيِّرين إلى سبيل الله ربِّ العالمين.
فكنْ يا بنيَّ واعيًا لقولي، مدرِكًا لرسالتك، حصيفًا في فهم طبيعة وجودك، مُلِمًّا بتَبِعات دينك:(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان ـ 13)، عندنا هنا ثلاث جمل خبرية تفيد تقرير الحكم، وترسيخه في حس، وشعور، وعقل، وفؤاد الصبي، الأولى:(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ ” والثانية: “وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ …” ،
والثالثة هي:” إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ” وعندنا كذلك جملتان إنشائيتان، هما جملة النداء : (يا بني)، وجملة النهي : (لا تشرك بالله)، وقد خرج النداء مخرَجًا هادئا بدليل التصغير، ولم يخرج بصوت جهوري، عالٍ، كما خرج النهيُ كذلك هادئَ النبرة، حنون اللفظ، وبدأ لقمان – عليه السلام- بأهمِّ القضايا التي يتطلبها الإنسان في حياته، وهي قضية الولاء، والبراء، وقضية التوحيد، والاعتقاد السليم، التي لو صلحت لصلحت حياةُ الإنسان كلها؛ لأن الشرك ممزِّقٌ للقوى، مشتِّتٌ للعقل، ولكن التوحيد مريح للنفس، ومهدئ للفكر؛ حيث يكون الإنسان متوجِّهًا بعمله إلى ربه الذي يراه، ويطلع على قلبه، ويعرف دواخل نفسه، ولا يمكن للإنسان الواعي صاحب الاعتقاد أن يفعل ما لا يُرضِي الله، ولا ما يُغضِب ربه، وإنما هو شخص مأمون الجانب، كريم المعاملة، رقيق القلب، يعمل العمل، ويخشى الله ألا يقبله، ويعمل ألف حساب للوقوف بين يديه، والخوف من جلاله، قال- تعالى-:(يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون).
فكان لقمانُ حكيمًا كل الحكمة عندما بدأ بقضايا الاعتقاد، وسلامة القلوب، واطمأن على طهارة الفؤاد التي سيُبنَي عليها كلُّ ما بعدها، من ضوابط، وقواعد، وأخلاقيات، ومعاملات، وعبادات، ونحوها.
بقلم الباحث /محمد احمد
كلية اللغات والترجمة – جامعة الأزهر
الاثنين ١٤ إبريل ٢٠٢٥