صرخة مواطن
الدكتور حافظ موسى

الأم نبع الحنان الصافي، بريق في سماء الكون , إعجاز من الله , أقدس معاني الإنسانية وأعظم هبات الحياة قيثارة وملحمة الأرض إنها الأم الحبيبة.

إن الوطن إذا لبس أقدس معانيه وتعطر بأجمل أسباب روعته وتزين بأبهى زينته لايضاهي أبسط معنى من معاني الأم ذلك لأن المرء يقضي حياته من الطفولة إلى الكهولة في وطنه ثم يدفن في ترابه ولكنه صار في بطن أمه من العدم إلى الوجود ومن الغيب إلى الحقيقة.

إن بطن الأم هو أقدس الأوطان وأروع أزمنة التاريخ إنه الزمان والمكان الذي يبعث فيه الوجود وتنطلق منه الحياة فإذا ماتت الأم مات الزمان والمكان ونزعت من الأشياء المعاني فصارت كلها سواء و نزعت من الدنيا الرحمة فصارت كلها بلاء .

إن كانت الأم حبا فهي أجمله وإن كانت عطاءا فهي أفضله وإن كانت احتواءا فهي أكمله الأم هي الثوب الذي تلبسه فيمنحك الحياة بكل معانيها ، إنها الكائن الضعيف الرقيق الذي يتحول إلى بركان ثائر ووحش كاسر إذا مس أولادها مكروه أو أرادهم أحد بسوء , عطاؤها لا يعرف قانونا , ولا يرتكز على نظام , ولا يركن إلى منطق.

عطاء يوقف إعمال العقل وأسبابه , فهي معك دائما ، عند الأم أنت دائما على صواب , لا تفهم إلا أن تكون معك ولك , تحب من يحبك وتبغض من يبغضك هي صفوة الحب والعطاء والأمن والأمان والرحمة والاحتواء ولا ترجو مقابل ذلك إلا أن تسعد أنت وترضى .

الأم هي قُبلة السماء على جبين الأرض.. وقِبلة الصغار التي إذا أرادوا أن يتحولوا عنها تحولوا لها , إذ يجدون فيها الروح والأمن والصلة إنها المخلوق الوحيد الذي لك فيه حق الرحمة.

إنها مذيب الهم الذي يحيل حياتك إلى لطف خالص ومزيل الغم الذي يبعث فيك نسائم الأمل وينفث فيك البهجة والحياة إنها الترياق الذي يعالج سموم الدنيا ويطبب علتك إن اليد التي طالما مدت بكل أسباب الرحمة والعطاء , آن لك أيها الابن والابنة اليوم أن تنحني وتقبلها وتلك الهامة التي طالما طاولت عنان السماء لتسمو بك وترقى آن لك أن تتوجها بكل أسباب البر.

أمي كلمة تعطر أنفاسي وتملأ خاطري نورا وأمنا أمي كلمة جمعت من كل شيء جماله , ومن كل معنى جلاله , ومن كل وصل وصاله , إنها الرحمة والرَّحِم ، دعيني أنظر إليك لأرى النور الباسم بإشراق نفسك ودعيني أحلق في السماء بروعة إقبالك واستقبالك دعيني أقبل يديك وراسك يا رائحة الشمس وعفو الظل وبر النور , يا باقة الحب يا رواء الروح , يا أبهى عطاء المولي الكريم .

أكبر وأنا عند أمي صغير، وأشيب وأنا لديها طفل هي الوحيدة التي نزفت من أجلي دموعها ولبنها ودمها.. الله يا أمي كم غسلتِ خدودكِ بالدموع حينما سافرت ُ! وكم عفتِ المنام يوم غبتُ! وكم ودَّعتِ الرُّقاد يوم مرضتُ. 

الله يا أمي.. إذا جئتُ من السفر وقفتِ بالباب تنظرين والعيون تدمع فرحاً وإذا خرجتُ من البيت وقفتِ تودعينني بقلب يقطر أسى الله يا أمي.. حملتِـني بين الضلوع أيام الآلام والأوجاع ووضعتِـني مع آهاتك وزفراتك وضممتِـني بقبلاتك وبسماتك.

الله يا أمي.. لا تنامين أبداً حتى يزور النوم جفني ولا ترتاحين أبداً حتى يحل السرور علي إذا ابتسمتُ ضحكتِ ولا تدرين ما السبب وإذا تكدّرتُ بكيتِ ولا تعلمين ما الخبر تعذرينني قبل أن أخطئ وتعفين عني قبل أن أتوب، وتسامحينني قبل أن أعتذر.

الله يا أمي.. من مدحني صدقتِه ولو جعلني إمام الأنام وبدر التمام ومن ذمني كذبتِه ولو شهد له العدول وزكَّاه الثقات أبداً أنتِ الوحيدة المشغولة بأمري، وأنتِ الفريدة المهمومة بي الله يا أمي: أنا قضيّتك الكبرى، وقصتكِ الجميلة، وأمنيتك العذبة، تُحسنين إليّ وتعتذرين من التقصيروتذوبين عليّ شوقاً وتريدين المزيد.

يا أمي.. ليتني أغسلُ بدموع الوفاء قدميكِ وأحمل في مهرجان الحياة نعليك يا أمي ليت الموت يتخطاكِ إليَّ، وليت البأس إذا قصدكِ يقع عليَّ كيف أردّ الجميل لكِ بعدما جعلتِ بطنكِ لي وعاء، وثديك لي سقاء، وحضنكِ لي غطاء. 

كيف أقابل إحسانكِ وقد شاب رأسكِ في سبيل إسعادي ورق عضمك من أجل راحتي
لانك أم و أنا ابن ولأنك سيدة وأنا خادم ولأنك مدرسة وأنا تلميذ ولأنك شجرة وأنا ثمرة ولانك كل شيء في حياتي. 
رب اغفر لوالدي وارحمهما كما ربياني صغيرا

ذات صلة: البطالة.. بقلم د/ حافظ موسى

اترك تعليق

من فضلك، أدخل تعليقك!
من فضلك، أدخل اسمك